13 يناير .. الفاروووق (1)
يمنات
منصور هائل
سأتحدث اليوم بلغة تلك الأيام لأقول أنه في مثل هذا اليوم 13 يناير 1986م أي قبل32 سنة ( أنفجر الموقف) وتغلبت لغة الحسم العسكري على كل محاولات احتواء التنازع في أوساط “القيادة التاريخية” و “القواعد الصلبة والمتماسكة” لحزبنا الإشتراكي اليمني، وتحول التنازع على فتات السلطة البائس، إلى تقاتل شرس و متوحش أسفر عن الآف القتلى و الجرحى و المشردين و المعوقين، و المعتقلين، فضلاً عن أنه قصم ظهورنا وأعمارنا، و أهدر أحلامنا وآمالنا وفرصنا في الحصول على رخصة للإقامة في العصر والتاريخ، وأسلم رقابنا ومصائرنا بالمتربصين بنا والمتكالبين علينا من الضباع في صنعاء والعربان في الجزيرة والخليج.
في تلك المعركة التي استخدمت فيها الدبابات والمدفعية والطيران والبوارج البحرية والخناجر والأنياب والأظافر، تبدد إلى غير رجعة، حلما في استكمال مرحلة “التحول إلى الاشتراكية”، وفي اختراع وطن.
كنت يومها في توثب ما بعد العشرين، وقد قدر لي الوقوف على الإطلال والجماجم والخرائب، وحكم على بالهرم المبكر والشيخوخة المستعجلة من تلك اللحظة من هول ماعشت وشهدت وشاهدت، ومن فداحة خسراني وفقداني لمعظم أصدقائي وأحبتي ورفاقي بما فيهم رئيس تحرير الصحيفة التي اكتنفت بدايات خربشاتي وسيرتي العملية – صحيفة 14 أكتوبر – ومدير تحرير الصحيفة ورئيس تحرير صحيفة “الثوري” ومدير إذاعة عدن، ومدير دار الهمداني، والعشرات من الصحفيين والكتاب والأدباء والمثقفين والأكاديميين “الكوادر”: جلهم قتلوا في يومين وعشرة أيام..؟!!
ما أكثر الأسماء وما أعسر الإحصاء..!!
أتعجب وأستغرب حتى الآن كيف نجوت .. ولماذا..؟! من الحمام الدموي الوحشي الذي تفجر وعصف بالبلاد ومزقها في وليمة عربيدة انتهت بنا إلى ما يشبه العدم.
13 يناير كانت أكبر عملية انتحار جماعية وعلامة فارقة وزاعقة على الإخفاق في إدارة الخلاف والاختلاف، وعلى الخفة والانزلاق إلى تصفية الخصوم والقتل، وبالأحرى تصفية شرط الحياة والوجود الإنساني القائم على الاختلاف أصلاً.
لـ” 13 ” يوم آخر، فهي جرح عميق وبعيد المدى، وشرخ ليس بمقدوري رأبه وصداع لن يشفى منه الرأس إلا بذات عقل نقدي متحرر من التياثاتها.
**
يومذاك كانت الثقافة – مجازآ- هي المستهدف في الصميم ، وكان المتهم رقم “1” هو المثقف، بل المثقف المحتمل والوعد.
كانت وليمة القتلة قد استحضرت المحاربين من قبائل طوق عدن، وكافة أصحاب السوابق من المشاركين في جرائم واغتيالات سالفة، وتصفيات و “لحس” والزعران وفتوات الحواري بقصد تأهيلنا إلى مستقبل أكثر مليشاوية وفوضوية ودموية ، وبالكثير من جرعات التوحش.
**
ولما كان المتهم رقم “1” هو المثقف في ذلك التاريخ والسياق وحتى يوم الناس هذا فقد حكم على رفاقي في “الطغمة” بالعزلة من قبل حركات التحرر والأحزاب الشيوعية العربية والعالمية، بعد أن رمموا عرش سلطتهم بأكداس من جثث رفاقي في “الزمرة” الذين اندحروا وهربوا وتشردوا، واعتقلوا وقتلوا، كما كانوا قد فعلوا تماما برفاقهم في “الطغمة”.
كان على الرفاق في “الطغمة” أن يفتحوا نافذة على حركات التحرر والأحزاب الشيوعية ولم يكن ثمة منفذ غير بصيص أتانا من القاهرة عبر الرفاق في حزب التجمع والشيوعيين المصريين، وكانت الزيارة الأولى لعدن للأستاذ والرفيق القدير رئيس تحرير صحيفة الأهالي – أصبحت فيما بعد مراسلاً لها- حسين عبد الرازق حينذاك إلى عدن أواخر 1986م ، الذي حرص كثيراَ، وكرر مراراَ السؤال عن أحوال المعتقلين وسأل بصفة خاصة ومشددة عن حال الصديق والرفيق فاروق علي أحمد.
لم تسنح الفرصة يومها، بل لم يستجب لطلب العزيز حسين بزيارة فاروق في السجن بذريعة أن الخواطر كانت مهتاجة، والرؤوس حامية تجاه “أخطر واحد” من المدبرين والمتآمرين على “التجربة الثورية حقنا”..!!!
في العام التالي عاود الرفيق حسين عبد الرازق الزيارة إلى عدن بدعوة “من قيادة الحزب والدولة” وكان على رأس وفد رفيع يضم رفيقة عمره وشريكة حياته الأستاذة والصديقة فريدة النقاش..
و كما في الزيارة الأولى كنت رفيقاً ومرافقاً للاثنين بتكليف من ما تبقى من “القيادة التاريخية” للحزب وصديقي الأحب الأستاذ محمد أحمد جرهوم وزير الإعلام والثقافة يومها.
كنت المرافق اليومي للرفيقين والصديقين فريدة وحسين أينما حلا وارتحلا.
في هذه الزيارة التي كانت في صائفة 1987م، صمما على و أصرا على مقابلة الرفاق المعتقلين في سجن “الفتح” وبالذات الرفيق فاروق علي أحمد، وكنت معهما .. كنت مذهولاً يومها بحق وإلى الآن أعترف بأني مذهول وأحاول التعمق في اللآمعقول الذي حدث ومازال يحدث بسبب من عدم الالتفات والإصاخة لكلام ذلك الرجل – وغيره – الشجاع الذي لم يكتف بالمشافهة، بل ألح على طلب قلم وحزمة كبيرة من الأوراق قبل أن يرشف قطرة ماء.
**
لقد تورطت بإفشاء خبر اللقاء الأخير مع العزيز فاروق لأختي وزميلتي أرملة فقيد عدن واليمن وحركة اليسار في العالم فاروق علي أحمد العزيزة فاطمة هايل عبر تعليق في “الفيسبوك” ووعدتها بالكتابة عنه .. عشمي كبير في صبرها وانتظارها لكتابة قادمة في قادم الأيام، إن شاء الل ، حول تلك المقابلة وملابساتها وما كتب فاروق .. مازلت أعتقد وليس في كل الظن إثم أن فاطمة كريمة، وسوف تنتظر..
محبتي لنجليهما غيداء وباسل، وكل الأسرة والرفاق الطيبين..
المصدر: حائط الكاتب على الفيسبوك
للاشتراك في قناة موقع يمنات على التليجرام انقر هنا